28‏/8‏/2011

آه منا نحن معشر الحمير - عزيز نسين



كنا، نحن معشر الحمير، سابقاً نتحدث بلغة خاصة بنا، أسوة بكم معشر البشر، هذه اللغة كانت جميلة وغنية، ولها وقع موسيقي جذاب كنا نتكلم ونغني. لم نكن ننهق مثلما عليه الحال الآن. لأن النهيق بدأ عندنا فيما بعد، وتعلمون أن جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا، نعبر عنها الآن بالنهيق.

ولكن ما هو النهيق؟ هاق، هاق.
هو عبارة عن مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر.

هذا هو النهيق.. الذي بقي في لغتنا ، لغة الحمرنة، لكن كيف تغيرت هذه اللغة حتى أصبحت بهذا الشكل؟

ألا يهمك معرفة هذه الحكاية وكيف حدثت؟
حسناً إذاً ، بما أنكم تهتمون بذلك، سأرويها لكم باختصار، لجم الخوف ألسنتنا وذهب بعقولنا ، وبسبب الخوف نسبنا للغتنا الحميرية.

في غابر الزمان كان يلهو حمار هرم وحده في الغابة، يغني بعض الأغاني بلغة الحمير ويأكل الأعشاب الغضة الطرية، وبعد فترة من اللهو تناهت إلى منخريه رائحة ذئب قادم، من بعيد. رفع الحمار رأسه عالياً وعبّ الهواء ملء رئتيه وقال: لا يوجد رائحة ذئب، لا، لا ليست رائحة ذئب ، وتابع لهوه قافزاً من مكان إلى آخر، ولكن الرائحة أخذت تزداد كلما دنا الذئب أكثر. هذا يعني أن المنية تقترب.
-          قد لا يكون ذئباً، قد لا يكون، ولذلك حاول الحمار الهرم أن يطمئن نفسه، إلا أن الرائحة كانت تزداد باطراد، فلما ازداد الذئب اقتراباً، كانت فرائص الحمار ترتعد رعباً، ومع ذلك كان يحاول إقناع نفسه بأن القادم ليس ذئباً.
-          - إنه ليس ذئباً، إن شاء الله كذلك، ولم يكون كذلك؟ ومن أين سيأتي وماذا سيفعل؟ وهكذا ظل الحمار الهرم يخدع نفسه، حتى بات يسمع صوتاً غير مستحب، صوت دبيب الذئب القادم.
-          إنه ليس ذئباً، لا ليس صوت ذئب، ولا يمكن أن يكون كذلك، وماذا سيعمل الذئب هنا، ولمَ سيأتي؟؟؟
ومع اقتراب الذئب أكثر فأكثر أخذ قلب الحمار يخفق وعيناه ترتجفان، وعندما حدّق عالياً صوب الجبل، رأى ذئباً مندفعاً مخلفاً وراءه سحباً من الغبار.
-          آه آه.. آه إنه ذئب، وكنت أحلم بذلك؟ قد يكون خيّل إليّ أن ما أراه ذئب أو كنت أحلم بذلك.
وبعد فترة ليست طويلة رأى ذئباً قادماً من بين الأشجار، مرة ثانية حاول أن يطمئن نفسه قائلاً:
-          أتمنى أن لا يكون ما أراه ذئباً، إن شاء الله لن يكون كذلك، ألم يجد هذا اللعين مكاناً آخر غير هذا المكان؟ لقد أصاب الوهن عيني، لذلك أخذت أرى هذا الشيء ذئباً قادماً.
تقلصت المسافة بينه وبين الذئب حتى أصبحت خمسين متراً. أيضاً حاول طمأنة نفسه قائلاً:
-          إن شاء الله أن يكون ما أراه ليس ذئباً، قد يكون حملاً أو فيلاً أو أي شيء آخر. ولكن لمَ أرى كلّ شيء بهيئة ذئب؟
-          - أعرف تماماً أن ما أراه ليس ذئباً ، ولكن لمَ لا أبتعد قليلاً.
أخذ الحمار الهرم يبتعد قليلاً ناظراً إلى الوراء، أما الذئب فقد اقترب منه فاغراً فاه.
-          حتى لو كان القادم ذئباً ماذا سيحصل... لا، لا لن يكون ذئباً، ولكن لم ترتعد فرائصي؟
جهد الحمار الهرم أن تكون خطواته أسرع، حتى بات يركض بأقصى سرعة أمام الذئب المندفع.
-          آه كم أنا أحمق فقد صرت أظن القطّ ذئباً وأركض هكذا كالمعتوه، لا ليس ذئباً... زاد الحمار من سرعته حتى أخذت ساقاه ترتطمان ببطنه ومع ذلك استمر في خداع نفسه قائلاً:
-          حتى لو كان الذي أراه ذئباً ، فهو ليس كذلك، إن شاء الله لن يكون كذلك.
نظر الحمار الهرم وراءه فرأى عيني الذئب تشعان وتطلقان سهاماً نارية، وتابع ركضه مطمئناً نفسه بقوله:
-          لا ، لا يمكن أن يكون ذئباً.
نظر الحمار خلفه عندما شعر بأنف الذئب يلامس ظهره المبلل، فوجده فاغراً فمه فوق ظهره.
حاول الركض إلا أنه لم يستطع ذلك لأن قواه خانته، فأصبح عاجزاً عن الحراك تحت ثقل الذئب، ولكي لا يراه فقد عمد على إغلاق عينيه وقال:
-          أعرف تماماً أنك لست ذئباً.
لا تدغدغ مؤخرتي إني لا أحب مزاح اليد.
غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار الهرم، ونهش منه قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح، كما يقولون، إرتبط لسان الحمار ونسي لغته.
-          آه آه إنه ذئب آه، هو آه هو .....
تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط، حيث لا يصدر منه سوى آه هو ... هاق .... هاق.
منذ ذاك اليوم نسينا أيها السادة ، ولم نستطع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا إلا بالنهيق.
ولو أن ذاك الحمار لم يخدع نفسه، لكنا نجيد الحديث بلغتنا إلى الآن. ولكن ماذا أقول آه منا نحن معشر الحمير.. هاق ... هاق ...

**

لا ، اريـــــــــــــد - الماغوط


سؤال: أيها الشاعر هل تريد هدم القصور على رؤوس أصحابها؟
جواب: لا، أريد فقط أن أتنهد أمام أسوارها.
سؤال: أيها الصحافي، هل تريد هدم السجون؟
جواب: لا. أريد فقط أن لا أكون من نزلائها.
سؤال: أيها المسرحي، هل تريد الاستيلاء على كرسي وزير أو سفير؟
جواب: لا، حتى عند الحلاق صرت أجلس على طراحة.
سؤال: أيها الكاتب بشكل عام، هل تريد مزرعة وجياداً وكلاب حراسة؟
جواب: لا، ولكنني لا أريد أن أنبح معها.
أيتها المرحلة العربية المباركة، يا ذات القلب الأبيض والأظافر الحمراء.
الخروف يعيش على الكلأ.
والأرنب على الجزر.
والثعلب على الدجاج.
والغراب على الأطلال.
والكاتب الذي هو، ليس خروفاً، ولا أرنباً، ولا ثعلباً، ولا غراباً، وانما انسان له أنف وعينان، وأذنان، ومعدة، وبنكرياس، وحجاب حاجز، وأظافر، وزائدة دودية، وكرامة ... على ماذا يعيش؟ على الخطابات؟
لأنني منذ رأيت الطيور تأكل الحب ، والإنسان يأكل الطيور، قلت: المعدة هي برلمان العالم.
ثم القاتل يعبر عن رأيه بمسدسه.
والجلاد بسوطه.
والحداد بمطرقته.
والغانية بحواجبها.
والراقصة بخصرها.
والكاتب الذي هو ليس قاتلاً، ولا جلاداً، ولا حداد، ولا غانية ولا راقصة، بماذا يعبر عن رأيه؟ وكيف؟ صهيلاً كالجواد؟ أم عواء كالذئب؟
في نهاية كل سطر، جندي نازي بمعطفه الرمادي وبندقيته الطويلة.
في نهاية كل قصيدة ، حاجز تفتيش.
في نهاية كل رواية، مجلس طواريء.
وفي نهاية كل مسرحية، مؤتمر قمة.
فاذا لم يستطع الكاتب العربي، وفي أدق مرحلة تمر بها أمته، أن يعبر عن رأيه لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل، ولا في حرب لبنان، ولا في حرب الخليج، ولا في حرب الصحراء، ولا عن كامب دايفيد، ولا عن المقاومة، فماذا يكتب؟ عن وحام الأميرة ديانا!
ثم في هذه المرحلة بالذات حيث تفيض الأرض العربية بالدماء والأشلاء، والسماء بالرائحين والغادين، لعقد صفقات البيع والشراء، اذا لم يستطع أن يتحرك لا أدبياً، ولا مهنياً، ولا اقليمياً، ولا وحدوياً، فهل يضع سلة بيض في زاوية المكتب، أو المطبعة، ويرقد فوقها كالدجاجة حتى تمر هذه المرحلة؟
* * * *

مأساة الكاتب العربي، أنه يقضي زهرة شبابه وكهولته، وشيخوخته، وهو يقفز لاهثاً، مذعوراً من الصحافة، إلى المسرح، إلى الشعر، إلى القصة، إلى الصفحة الأولى، إلى الصفحة الأخيرة. وفي نهاية العمر، لا يجد ما يتبلغ به سوى دمه، وحطام أظافره.
ومع ذلك، ما زالت الجمارك والموانيء العربية، تستقبل على مدار السنة آلاف المطابع الجديدة. وما زالت هذه المطابع تهدر على مدار الساعة، وتقذف كل يوم وكل ساعة بآلاف الكتب الجديدة، والمجلات الجديدة الأسماء الجديدة. ولكن وأنت تطالع هذهالمجلة، وتتصفح ذلك الكتاب لا ترى غبار القدم بين السطور فحسب، بل خيوط العنكبوت في كل ما حولك بين خيوط المطر، وتويجات الزهرة، وأصابع الطفل الوليد.
ولذلك ما جدوى اصدار كتب جديدة؟
وشق طرق جديدة؟
وركوب سيارات جديدة.
وإجراء انتخابات جديدة.
بل ما جدوى ان ننتعل أحذية جديدة.
ونرتدي معاطف جديدة.
ومايوهات جديدة.
والوطن عتيق ... عتيق ...؟

المشروب الرسمي للمؤتمر - الماغوط


بدون مناسبة، تخليت نفسي ناطقاً باسم الدول العربية، اتحدث إلى مندوبي الاذاعة والتلفزيون ومراسلي الصحف ووكالات الأنباء الأجانب عن أهم شؤون الساعة، ونحن نحتسي القهوة العربية الأصيلة في قاعة المؤتمرات الصحفية في الأمم المتحدة.

مراسل انكليزي: ما هو سبب اصراركم على تقديم القهوة المرة دون سواها في جميع المؤتمرات والمناسبات؟
حتى نظل نتذكر مرارة الواقع الذي تعيشه أمتنا.
يتحدثون في الغرب كثيراً هذه الأيام عن تطورات مريبة في المنطقة. ما تعقيبكم على ذلك؟
ليتحدثوا بما يشاؤون. فالشعوب في هذه البلاد معروفة بكثرة الكلام.
وأنتم؟
بالأفعال طبعاً.

مراسل أمريكي: ولكن هناك مؤشرات تؤكد تراجعكم عن بعض المواقف.
مستحيل، لأننا لم نتقدم أصلاً حتى نتراجع.
هل هناك ما يثبت ذلك؟
طبعاً، فمواقفنا السياسية واضحة وصريحة ونعبر عنها باستمرار في صحفنا. وهذه نماذج منها. تفضلوا ووزعوها على بعضكم. لا تجفلوا، معكم حق، هناك مشكلة اللغة، فنحن عرب ولا نفهمها فكيف أنتم؟

مراسل فرنسي: الصحافة في الغرب تجاري السرعة والتطور، فهي تقدم لقارئها أوسع المعلومات في أقل عدد ممكن من السطور. ولذلك بمجرد أن يتصفحها يلم بكل ما يجري في العالم، ثم يرميها حيث هو في الباص أو الميترو وينصرف إلى عمله.
من هذه الناحية نحن أرقى منكم. فالقارىء العربي يرمي الجريدة دون أن يقرأها.

مراسل سويدي: هل المعارضة مشروعة في الوطن العربي؟
طبعاً.

مراسل البرافدا: ولكن القوى الديموقراطية محرومة من ابداء أي رأي.
اسكت أنت. في بلادكم حتى الطرقات كلها باتجاه واحد.

المراسل السويدي: ان حرية التعبير والكلام والمعتقد، مضمونة لجميع فئات الشعب، ويستطيع أي مواطن عربي في أي بلد عربي ... ان يدخل على أي مسؤول ويقول ما يشاء، ولكن متى يخرج فهذه مسألة أخرى.
وعن ظروف المعتقلين وحالتهم الصحية والنفسية؟

مراسل البرافدا: دعونا من هذا الموضوع.
بل سنبقى فيه، اذ ليس عندنا ما نخجل منه، ثم نحن كما هو معروف عنا لا نخجل من شيء. فبالنسبة لظروف المعتقلين، فكل ما يقال هو افتراض ونسج خيال، لأنه اذا كان أهلهم وآباؤهم وأمهاتهم لا يعرفون عنهم شيئاً منذ لحظة اعتقالهم، فكيف يمكن للغرباء أن يعرفوا عنهم كل هذه المعلومات؟

مراسل أمريكي: لنعد إلى موضوع الساعة. ان الاعلام العربي لا يزال يصر على أن اسرائيل لم تحقق أهدافها من غزو لبنان.
طبعاً.
وما هي أهدافها كما تعتقدون؟
اننا لا نعرف أهدافنا، فكيف نعرف أهداف غيرنا.

مراسل أندونيسي: كنتم لسنوات خلت ناشطون جداً على الساحة الدولية، ومتحمسين جداً لمؤتمر جنيف، مؤتمر البندقية، مؤتمر الاشتراكية الدولية، للحوار العربي - الاوروبي، للحياد الايجابي وعدم الانحياز، ثم فتر نشاطكم وانعدم حماسكم. لماذا؟ هل يئستم من العالم؟
لا العالم يئس منا.

مراسل ايطالي: هل معنى ذلك أن قراراتكم الآن تصنعونها بمعزل عن جميع الظروف والتيارات الاخرى في العالم؟
ليس الآن. بل دائماً، قراراتنا وطنية، لكن قطع الغيار من الخارج.

مراسل ألماني: في هذا الزمن الذي هو زمن التحولات والتغيرات الكبرى، في السياسة والفكر والعلم والاقتصاد، نلاحظ أن جميع توجهاتكم ومنطلقاتكم ما زالت كما هي، ولم يتغير أي شيء جذرياً في الوطن العربي.
الا يكفي أن خريطته تتغير كل يوم.

مراسل هولندي: ما هو موقف الدول العربية من الثورة الايرانية؟
نحن لا نتدخل في شؤون الآخرين.
اذن من وراء حرب لبنان، وحرب الخليج، والصحراء الكبرى وغيرها؟
الأصابع الأجنبية في المنطقة.
والأصابع العربية ماذا تفعل الآن في المنطقة؟
تعزف البيانو.

مراسل رياضي: تولون الرياضة في بلادكم اهتماماً خاصاً، تنفقون الملايين على الملاعب والمباريات، وتأهيل اللاعبين، ومع ذلك فقلما فاز فريق عربي بجائزة تذكر. لماذا؟
أنا شخصياً، لم أكن متحمساً في يوم من الأيام لهذا الاهتمام الزائد بالرياضة وخاصة كرة القدم. لأن العربي بطبعه لا يحب اللعب إلا بالقضايا الكبرى.

مراسل صيني: إلى أين وصلت خطواتكم لتحقيق الوحدة العربية؟
يكفينا الآن التضامن العربي.
ولكن ما يجري الآن على الساحة العربية يوحي بعكس ذلك. فلبنان يعمل على جبهة، ودول الرفض على جبهة، والدول المعتدلة على جبهة، والمقاومة على عدة جبهات. ما معنى ذلك؟
معناه استقلالية الرأي وديموقراطية التوجه. ثم المهم المحصلة النهائية لهذه الجهود وأين ستصب؟

مراسل لبناني: والله لن تصب إلا في نهر الليطاني.
ولكنه سيعود. نهر الليطاني سيعود، ونهر الأردن، والنيل نفسه سيعود.
إلى الاحتلال؟
بل إلى الأرض العربية والمصير العربي.

مراسل هندي: اذن لا تستبعدون مصر من العودة؟
طبعاً لا. ولكن صورة كامب ديفيد لا تغيب عن ذهن واحد في هذه المرحلة.
هل من كلمة توجهونها للنظام المصري بهذه المناسبة؟
أرجو المعذرة، فالعلاقات مقطوعة بيننا كما تعرفون، والظروف دقيقة جداً.

مراسل فني: اذا كانت الكلمة تسبب احراجاً، فما رأيك باهدائه أغنية باسم الدول العربية؟
إذا كان لا بد من ذلك، فانني أهديه في هذه المرحلة أغنية فيروز "تعا ولا تجي" .

الجميع: معنى ذلك أنك متفائل بالمستقبل؟
كل التفاؤل.
وسعيد بالعمل العربي الحالي على الساحة العربية؟
كل السعادة. ثم أنا في الأصل اسمي سعيد، وأبي مسعود وأمي سعدى وأختي سعدية. وان جاءني ولد فسأسميه "سعدان" .



.

وجبة اليوم وكل يوم

كان المحاضر العربي والمتجول في جامعات أوروبا والذي نزح عن وطنه منذ سنوات طويلة هرباً من الجوع والارهاب، يتجول ذات مساء في شوارع احدى المدن الاوروبية وكل ما حوله من ديموقراطية وعدالة ونظام متلألئا ومتناسقا مثل شجرة الميلاد.

المظلات فوق الرؤوس، والمارة فوق الأرصفة، والقانون فوق الجميع، يالها من حضارة مهذبة ودود كالقطة المنزلية الأليفة.

ودخل أحد المطاعم الفاخرة ليتناول عشاءه، فاستقبله "الميتر" بابتسامته المعهودة للغرباء، وقدم لائحة الطعام ووقف بانتظار طلباته. فقال له الأستاذ الغريب: انني متعب من القراءة والكتابة فاقرأ لي القائمة اذا أمرت.

قال "الميتر" بحماس: أمرك سيدي. عندنا ويسكي اسكتلندي، وبيرة ألمانية، وخبز كندي، وشوربة سويسرية، وجبنة فرنسية، ولحم أرجنتيني، وكافيار روسي، ومعكرونة ايطالية، وشاي سيلاني، وقهوة برازيلية، أما الاقداح فهي تشيكية والفوط والمناشف أمريكية.
فشعر الأستاذ بغربة عميقة عن كل ما قرىء له. وانتابه حنين جارف إلى أي شيء يذكره بوطنه وبلاده.

فسأله: أليس عندكم أي شيء عربي؟
فقال الميتر: لا. ليس عندنا أي شيء عربي سوى "الخدم".

وعاد إلى وطنه في أول طائرة حاملاً خبرته وشهاداته وأشواقه ليعوض ما فات من عمره كل هذه السنين. وما أن وصل إلى الفندق حتى ترك فيه كل شيء، ووضع يديه في جيوبه وراح يتجول حتى آخر الليل في شوارع المدينة التي أحبها وهجرهها وهو لا يكاد يشبع من هوائها وأرصفتها وسمائها ونجومها وسط النقاش العالي وراء جدرانها. ودخل أحد المطاعم بعد أن أرهقه التجوال الطويل ليتناول عشاءه فهب إليه "الميتر" بابتسامته المعهودة مرحباً به وبطلباته فقال له الاستاذ الغريب: اقرأ لي ما عندك من أطعمة ومشروبات، فأنا كنت غائباً لسنوات وسنوات عن الوطن. وقد لا أعرف ما تعنيه الأسماء في الوقت الحاضر.

فقال الميتر: عندنا عرق لبناني وفول سوداني وكباب حلبي، وملوخية مصرية، وكبسة سعودية وفريكة عراقية وكوسكوس تونسي وكنافة نابلسية وبطيخ أردني وقهوة عدنية. والطبخ بجميع أنواعه عربي وكما ترى المطبخ شرقي والستائر شرقية والراقصة شرقية والأغاني عربية وكذلك الفرش واللباس عربي. وكذلك أنا وموظفو الاستقبال والطهاة والمحاسبون. كلنا عرب بعرب.
فتنفس الأستاذ الصعداء وقال: يعني ليس عندكم أي شيء أجنبي؟
الميتر: أبداً يا سيدي، ليس عندنا أي شيء أجنبي ما عدا صاحب المحل ...
* * *

وشمر عن ساعد الجد والعمل وانخرط في الحياة السياسية حتى شحمة أذنيه. ودخل في حزب وخرج من آخر. وانضم إلى هذه المنظمة، وعارض تلك الكتلة. تغذى مع المعارضة وتعشى مع الموالاة. عجن اليمين وخبز اليسار. احتك بالأطباء والمحامين والتجار والمقاولين. يستوضح ويستكشف ويستوعب. سابراً غور السياسة العربية قبل كامب ديفيد وبعده، مسترشداً بقرارات القمة الموسعة والمغلقة. آخذاً بعين الاعتبار نقط الخلاف ونقط الالتقاء بين الأنظمة المعارضة والأنظمة الموالية لهذا المعسكر أو ذاك. ثم افتتح عدداً من المشاريع في مختلف المجالات. ثم افتتح مطعماً ووقف على بابه. وكلما دخل زبون وسأله: هل اللحم والفراريج عندكم مذبوحة على الطريقة الاسلامية؟
يجيبه وهو يقدم له الشوكة والسكين: ليس عندنا سوى الانسان العربي مذبوح على ألف طريقة وطريقة

وينو ؟؟؟ مو موجود !!! - محمد الماغوط


نهض المواطن عرب بن عروبة بن عربان مبكراً من فراشه، فغسل وجهه بسرعة بالماء المثلج، وحلق ذقنه كيفما اتفق بشفرة مثلمة، وضرب شعره ضربتين بمشط مكسور، ثم ألقى نظرة عابرة إلى وجهه وقيافته، ثم إلى أمه وأخته، قبل أن يتأبط مصنف "قضيته" وينطلق إلى دوائر الدولة للمراجعة في شأنها. لقد استغفلهم صاحب البيت وتنكر لعشرين سنة من صباح الخير يا جار ومساء الخير يا جار وتقدم بدعوى قضائية لاخلاء المأجور وطردهم منه إلى الشارع.

ولكنه كان واثقاً أن الدولة لن تنساه في محنته هذه. وأن حربة الظلم لايمكن أن تنفذ من كل ما في دوائر الدولة من موظفين واختام ومصنفات لتستقر في قلبه. واستقل الباص، وقصد مكتب القاضي المختص بقضايا المواطنين في وزارة العدل.

الحاجب: نعم؟
المواطن: هل سيادة القاضي موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر.
المواطن: إلى أين؟
الحاجب: إلى جنيف لحضور مؤتمر الحقوقيين الدوليين.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وغرق في احدى روايات أرسين لوبين.
واستقل المواطن باصاً آخر لمراجعة مسؤول آخر.

حاجب آخر: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ فلان موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر إلى سيؤل لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وانصرف إلى براد الشاي يعده ويخمره.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.

السكرتيرة: نعم؟
المواطن: هل الدكتور فلان موجود؟
السكرتيرة: لا مسافر إلى لاغوس لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الأرتيري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وانصرفت إلى مجلة الشبكة.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.

سكرتيرة أخرى: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ الدكتور موجود؟
السكرتيرة: لا. انه مسافر إلى مالطا لحضور مؤتمر التضامن مع الشعب الكوري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وغرقت في مجلة بوردا.

وعندما انتهى الدوام الرسمي وخلت الدوائر والمكاتب من الموظفين والمراجعين، ولم يبق فيها إلا الأوراق والمعاملات والمصنفات. وبعد أن تورمت قدماه من صعود الأدراج وهبوطها، لم يبق أمامه ما يفعله سوى الانتظار مرة أخرى مع مئات المنتظرين عند مواقف الباصات للعودة إلى بيته وأهله. وعندما ابتسم له الحظ وأقبل الباص شتم أثناء الصعود ونشل أثناء النزول.

وعندما وصل إلى مدخل الحارة فوجىء بأغراض بيته مكومة في الشارع وأمه وأخته تجلسان عليها. وكل منهما وضعت يدها على خدها وراحت تحدق في هذا العالم. ولما كان بطبعه هادئاً مسالماً فقد سأل بهدوء: متى حدث ذلك؟
فأجابته الأم دون أن تنظر إليه: بعد ذهابك بقليل.
فربت على كتفها مواسياً، وجلس القرفصاء على كومة الأغراض والمعاملة لا تزال تحت إبطه. ونظر بحنان إلى أخته الصامتة الشقية وسأل: ما بها؟
فقالت الأم: فوق همنا هذا، ونحن نخرج الأغراض والأمتعة، وفيما هي منحنية لحزمها، جاء أحد المارة وقرصها في مؤخرتها.
فقال متنهداً: بسيطة.
فقالت الأم: بسيطة، بسيطة. وماذا ستفعل الآن. والليل قد أقبل؟ هل ننام في الشارع؟
فقال لها: لا تبتئسي يا أمي ان الدولة لا يمكن أن تنساني. أنا واثق من ذلك.
وهنا أقبل نحوه شرطي يجرجر قدميه من التعب، وسأله وهو يخرج بعض الأوراق من حقيبته الجلدية: هل أنت المواطن فلان الفلاني؟
المواطن: نعم.
الشرطي: مطلوب لخدمة العلم.

أنا الحاوي - محمد الماغـــــــــــوط


أنا العرب دون نفط.
وعبد الناصر دون ميكروفونات.
أنا المؤامرة على لبنان ولا أستطيع فضحها.
مجازر حرب الخليج ولا أستطيع وقفها.
المقاومة الفلسطينية تنهار ولا أستطيع دعمها.
البطون الجائعة في كل بيت ولا أستطيع إطعامها.
الأجساد العارية على كل رصيف ولا أستطيع سترها.
الجراح العميقة في كل قلب ولا أستطيع تضميدها.
الخناجر المغروسة في كل ظهر ولا أستطيع نزعها.
الدموع على كل وجه ولا أستطيع تجفيفها.
الوحدة القاتلة في كل سرير ولا أستطيع تخفيفها.
الجثث المبعثرة في كل خطوة ولا أستطيع دفنها.
النسور الحبيسة في كل قفص ولا أستطيع اطلاقها.
الحقوق المهدورة في كل مكان ولا أستطيع لمسها.

أي أن جميع الطاقات السياسية والفكرية والاقتصادية والعاطفية كالحب والخير والجمال والصداقة والخبرة والوفاء وطرافة الحديث وشدة الانتباه يجب أن تجد نفسها أمام العجز الكامل.

أي أن الإنسان العربي لا يستطيع في هذه الظروف العصبية التي تمر بها أمته أن يلعب أي دور سياسي أو ثقافي أو اجتماعي أو نضالي ولو غناء مثل عبده الحامولي أو صالح عبد الحي.

ولكن، من جهة أخرى، لقد دربت الدببة على الرقص.
والقردة على الغناء.
والبلابل على النعيق.
والنمل على الفوضى.
والماعز على النظام.
والثعلب على الوفاء.
والكلب على الغدر.
والسنونو على الاقامة.
والدجاج على الهجرة.
والذئب على التسامح.
والبجع على الحقد.
والحملان على الصمود.
والأرانب على التهور.
والضفادع على الصمت.
والببغاء على الخطابة.
والسمك على النوم.
والجراد على الزحف.
والسلحفاة على القفز.

ولم أستطع تدريب إنسان عربي واحد على صعود الباص من الخلف والنزول من الأمام، فكيف بتدريبه على الثورة.

ولذلك زودت أطفال الشرق منذ الآن بعناوين الأونروا ووكالات غوث اللاجئين، ودربتهم على الوقوف في طوابير الاعاشة وآداب النوم في الملاجىء والاستلقاء في المقابر الجماعية، ودربت قاصراته على آلام الاغتصاب وضرورة التمسك بلعبهن، بحصالات نقودهن، بثياب الموتى من حولهن، أن لا يأخذن أبداً بالشعار الذي أطلقته اسرائيل عام 1948 : "العرض قبل الأرض" لأن الأرض قبل العرض والطول.

قبل بيارات البرتقال وبساتين الليمون، قبل زرقة البحر وغناء الصيادين ومواويل الفلاحين، قبل الزراعة والصناعة والفن والعلم والمعرفة واليمين واليسار، والماضي والحاضر والمستقبل ولكنها ليست قبل الحرية.